مقالات

(7) الإنسان… بين الدنيا والآخرة

إن وجود فراغ في الذرة بهذا الشكل الهائل، يؤكد مدى الهشاشة الموجودة في الكون، ويؤكد مدى ضعف الإنسان ووهنه وهشاشة خلاياه وذراته، ويؤكد بما لا يدع مجالًا للشك، أن الله سبحانه وتعالى، هو الذي يتحكم في وجود الكون والإنسان، وعندما تنتهي حياة الكون أو حياة الإنسان، يتبخر كل منهما في لحظة عابرة، مثل فص ملح وذاب وكأنه شيئًا لم يكن من قبل فيعود كل من الكون والإنسان إلى العدم، كما خُلقا من العدم.

فتماسك الكون والإنسان، بالرغم من الفراغ الهائل الذي يملأ كلا منهما عن آخره، يؤكد عظمة الله سبحانه وتعالى، ويؤكد خصوصية العلم وعمق الخبرة وبيان الحكمة ومدى اللطف، في روعة الخلق والبناء والتكوين، فكيف يعيش الكون والإنسان في هذا الفراغ، وكيف يبني الكون والإنسان من فراغ؟

فنرى الإنسان أمامنا في مراحل حياته المختلفة، كما أسلفنا من قبل في داخل الرحم، أو في خارجه، عندما ينتهي عمره ويترك الدنيا ويذهب إلى الآخرة، يتبخر من الحياة وكأنه بعد من أثر، وكأنه لم يأتِ إليها، لكن يأخذ معه كل شيء عمله في الحياة، مسجل عليه بالصوت والصورة والفيديو، محفوظ في ثنايا جلده وفي خلاياه وذراته ومثقال ذراته وأصغر منها، وفي كل مكونات أنسجته وأعضاءه وأجهزته في التراب.

وفيها كتاب مكتوب وسجل، يقرأه بنفسه أمام نفسه كي يحاسب نفسه علي مستوى الذرة وعلى مستوى مثقال ذرة أمام ربه وخالقه في الآخرة.

قال تعالى: “اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَىٰ بِنَفْسِكَ اليوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبً” “الإسراء: 14).

فالأصل في كل الكون وما فيه من مخلوقات العدمية، فكلها مخلوقات خلقها الله من عدم وأمدها بقدرته من عدم ووهبها الحياة، بالرغم من ضعفها وهوانها فلا قيمة لحياة المخلوقات ولا معاني لوجودها، ما لم يكن لها خير في نفسها وما لم تبحث عن خالقها وسبب وجودها في الحياة.

الأمر المدهش حقًا في خلق الكون وخلق الإنسان، هو أن كلاهما خلق من العدم في الحياة بكل معاني الحياة، وفي الموت بكل معاني الموت، بالرغم من العدم الموجودة فيه، ثم العودة إلى العدم مرة أخرى بالموت، ثم إعادة الخلق من الموت مرة أخرى من عدم، وكأن العدم يطارد الكون والإنسان في الحياة، إلى أن يصبح كل منهما عدم ويعاد تكوينهما وخلقهما مرة أخرى من عدم.

ساعتها يدرك الإنسان والجن، اللذين خلقا في الأصل من العدم، من ذرة من الهيدروجين كانت عدم، فكان كل منهما عدم وهباء منثور، لا أصل له ولا وجود إلا في العدم، فالإنسان خلق من ذرة من التراب النوراني، فكان ترابي نوراني، والجن خلق من ذرة من النار فكان نيراني نوراني.

ومع ذلك أتعب كل منهما نفسه وأهلكها، بالرغم من خلقهما من عدم، وبالرغم من وجودهما في عدم، وبالرغم من أن مصيرهما إلى الفناء والعدم فأتعبا معهما الكون وما فيه من مخلوقات، لسبب بسيط وهو أن الإنسان وتابعه من الجن لم يدرك كل منهما حجمه الحقيقة، وأصله الذي جيء به من العدم إلى الوجود ويعيش في عدم ويذهب إلى العدم، ثلاث كلمات في آية اختصرت الحياة.

قال تعالى: “كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26) وَيَبْقَىٰ وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ” (الرحمن: 26-27).

فكانت عداوة الجن للإنس واضحة وكان خوف الإنس من الجن ظاهرة للعيان، ولكن عدواتهما أشد لدعوة الأنبياء والمرسلين من أجل سلوك الصراط المستقيم، فضاعا الاثنين، الجن والإنسان وفقدا قيمة الحياة، ولم يستفيدا من الفرصة الذهبية التي منحهما الله إياها في الحياة بل شقيا بالحياة، بعد أن كان من المفروض أن يسعدان بها، ففقدا الدنيا ومعها الآخرة المقبلة على معاد.

قال تعالى: “وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إليٰ بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا ۚ وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ ۖ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ ” (الأنعام: 112).

وهذا فيه إعجاز هائل وعظيم، فكيف يعيش الكون والإنسان في هذا الفراغ المخلوق من العدم، وكيف يبني الكون والإنسان من هذا الفراغ الذي جاء من العدم؟

الدكتور عبدالخالق حسن يونس، أستاذ الجلدية والتناسلية والذكورة بكلية الطب بجامعة الأزهر

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
« Browse the site in your preferred language »